أضف تعليق

قد ينتهي قريباً قانون عمره 50 عاماً منع الصراع الأمريكي الروسي

كيف يمكن لتغيير واحد في سياسات تركيا أن يخلق توترات عالمية خطيرة

بقلم: سجاد شودري/ ترجمة: ماهر الجنيدي/ مصدر الصورة: ميديا مونيتور

تمتلك تركيا واحدة من أكثر مدن العالم أهميةً من الناحية الاستراتيجية: اسطنبول. تضطجع اسطنبول على أراضيَ من قارتين، وكانت مقراً لسلطة إمبراطوريات كبرى عبر تاريخ العالم، وهي اليوم إلى حد بعيد أكبر مدينة في أوروبا يبلغ عدد سكانها 15 مليون نسمة.

يمر عبر المدينة أيضاً أحد أكثر الممرات المائية إستراتيجية في العالم: مضيق البوسفور. يفصل البوسفور أوروبا عن آسيا، ويربط البحر الأسود ببحر إيجة. إنه أيضاً المعبر الوحيد التي يتيح من خلاله لخمسة بلدان أخرى الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.

بيد أنّ إحدى تلك الدول هي روسيا، ومن أجل شحن نفطها إلى بقية العالم، يتعين عليها المرور عبر مضيق البوسفور والدخول إلى المياه الإقليمية التركية.

لعلك تظن أن هذا سيجعل تركيا دولة غنية جداً، أليس كذلك؟ حسناً، في الواقع، لا تحقق الدولة أي دخل من هذا الوضع، وهنا تكمن المشكلة. تريد تركيا إنشاء ممر مائي جديد، من شأنه أن يحول إسطنبول إلى جزيرة، ويحقق إيرادات ويتجاوز جميع قواعد مضيق البوسفور. وقد يؤدي تجاوز تلك القواعد إلى خلق توترات عالمية خطيرة.

تاريخ موجز

بعد حرب الاستقلال التركية في العام 1923، وقعت الحكومة التركية الجديدة معاهدة لوزان، التي نزعت السلاح عن مضيق البوسفور وفتحت المجال أمام الشحن البحري غير المقيد.

لكن عندما لاحت الحرب العالمية الثانية في الأفق، بدأ الوضع الجيوسياسي للبحر الأبيض المتوسط ​​يتغير. سيطرت إيطاليا الفاشية على عدة جزر، وأرادت تركيا تعديل المعاهدة من أجل حماية نفسها. في العام 1936، تم التوقيع على اتفاقية مونترو، وأعيدت عسكرة مضيق البوسفور مرة أخرى، لكنْ مع بعض القيود.

في حين أنها أعطت تركيا الحماية التي تحتاجها، إلا أنها كانت تعني شيئين. أولاً، تم فرض قيود على السفن الحربية الأجنبية التي تمر عبر المضيق، وثانياً: ظلت السفن المدنية التي تدخل المضيق غير خاضعة لأي رسوم أو مكوس. في ذلك الوقت، كان هذا الحل مصدر ارتياح لأنه يعني أن بمقدور تركيا أن تظل محايدة طوال الحرب العالمية الثانية، ويعني أن روسيا كانت في مأمن من أي سفن ألمانية تدخل البحر الأسود.

ومباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، طالب الاتحاد السوفيتي بالسيطرة المشتركة على مضيق البوسفور وأراد وجوداً عسكرياً في المنطقة. وفيما رفضت تركيا ذلك، عثر السوفييت على ثغرة.

نصت المعاهدة على إمكانية مرور تسع سفن حربية فقط لا يزيد وزنها عن 15 ألف طن. لذلك، قرر السوفييت إرسال أكبر سفينة حربية لهم، كانت بوزن يقارب 15 ألف طن، تتمركز بشكل دائم في المضيق، وتمنع بالتالي أي دولة أخرى، بما في ذلك تركيا، من إرسال سفن حربية خاصة بها.

للتغلب على هذه المشكلة، انضمت تركيا إلى الناتو في العام 1952، الأمر الذي زاد من غضب الاتحاد السوفيتي كونها أصبحت الآن حليفة عدو الحرب الباردة. لكن الولايات المتحدة لم تستطع أيضاً إرسال السفن، وبدلاً من ذلك، عثرت على ثغرة أخرى وتمكنت من إرسال طرادات الصواريخ عبرها، مشيرة إلى أن هذا الضنف من السلاح لم يكن موجوداً بعد في العام 1932، ولم تكن جزءاً من القيود.

على الرغم من ذلك، مازال الوضع يمنع الولايات المتحدة من بناء أي قوة ذات مغزى في المنطقة، لأن القيام بذلك من شأنه أن يخرق المعاهدة. لم يتم السماح بالغواصات وحاملات الطائرات على الإطلاق.

ولكن بعد ذلك، حدث شيء مثير للاهتمام. في عام 1958، أصدرت الأمم المتحدة قانون البحار. على الرغم من أنه كان سينقض اتفاقية مونترو ويمنح تركيا مزيداً من الصلاحيات في إدارة مضيق البوسفور، إلا أنه سيعني أيضاً التخلي عن بحر إيجه بالكامل للمياه الإقليمية لليونان، وهو أمر لن تفعله أبداً.

لسوء الحظ، كان ذلك يعني أن تركيا ستظل عالقة بالمعاهدة القديمة. لذا بحثت بدلاً من ذلك عن حلّ مبتكر، فقررت بناء قناة اصطناعية على طول مضيق البوسفور، لا تخضع لأي قيود على الإطلاق.

كيف ستحقق تركيا ذلك؟

نظراً لأن اتفاقية مونترو تنطبق فقط على مضيق البوسفور، فإن أي قنوات أو ممرات مائية جديدة تشيدها تركيا لن تكون خاضعة للمعاهدة.

من خلال بناء قناة اصطناعية وتحويل إسطنبول إلى جزيرة، يمكن لتركيا فرض رسوم على أي سفينة تمر عبرها، وكذلك السماح لأي سفن حربية وغواصات تابعة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بالمرور لأول مرة منذ أكثر من 50 عاماً.

وهذا بالضبط ما تخطط تركيا لفعله من خلال مشروعها العملاق لشقّ قناة إسطنبول، الذي بدأت به في مارس 2021. الخطة هي بناء القناة على بعد 30 كم غرب البوسفور وجعلها بطول 45 كم. وللمقارنة، يبلغ طول قناة السويس 200 كيلومتر، لذا فمن المؤكّد من منظور هندسي أنها قابلة للتنفيذ.

بالطبع، تجادل تركيا بأن دواعي شق القناة لا علاقة لها بتجاوز اتفاقية مونترو. وتقول إنّ ازدحام مضيق البوسفور يجعل الممر المائي مزدحماً دائماً بحركة المرور.

تمر أكثر من 41 ألف سفينة كل عام، وكلّما جاءت سفينة جديدة، توجّب عليها الانتظار في طابور لمدة تصل إلى أربع عشرة ساعة! خلال الأوقات المزدحمة، قد يستمر الانتظار أياماً، لذلك فلا عجب أن لتركيا دوافع أخرى لبناء قناة جديدة.

بوجود القناة الجديدة، تقول تركيا إن بمقدورها دعم 140 سفينة يومياً، ما سيحدث تأثيراً فوري على صعيد التخفيف من مشاكل المرور الحالية. هناك مشكلة أخرى، بالطبع، هي أنه نظراً لمرور مضيق البوسفور عبر المدينة، هناك خطر كبير من العواقب الوخيمة التي قد تنجم عن تعرض السفن التي تحمل شحنات خطيرة لأي حادث.

مع صعوبة التنقل في الممر المائي، والعدد الذي لا يحصى من حاويات النفط والعبارات والسفن الحربية الأخرى المتواجدة جميعاً في المنطقة ذاتها، فليس من المستبعد حدوث مثل هذا الحدث، وقد رأينا بالفعل أهوال ما يمكن أن يحدث من تفجيري بيروت وهاليفاكس.

لكن مشكلة تحويل السفن التي تحمل الشحنات الخطرة إلى القناة الجديدة لن تتوقف عند هذا الحد، لأن لدى تركيا خططاً لتطوير ضفاف القناة الجديدة بعقارات رئيسية. هذا جزء من خطة رؤية الدولة لعام 2023، التي تتزامن أيضاً مع الذكرى المئوية لتأسيس الدولة الحديثة.

ولكن مع كل هذا الاستثمار، كم ستكلّف هذه القناة، وهل تستحق ذلك حقاً؟

من المتوقع أن يكلف مشروع القناة حوالي 15 مليار دولار، لكن من خلال فرض الرسوم والمكوس، يُتوقّع أن تدر دخلاً سنوياً يبلغ حوالي 8 مليارات دولار، أي أكثر بـ30 بالمئة مما تدرّه قناة السويس لمصر. لكن هذا الرقم، وعمليات تشييد القناة نفسها مثيران للجدل إلى حد كبير.

ذلك أن شقّ القناة لن يضمن مرور أي سفن عبرها. فهو ليس إسقاطاً لاتفاقية مونترو، بل مجرد تجاوز لها. وبما أن السفن التجارية تتمتع بحرية الوصول غير المقيد، فليس لديها حافز للتحول إلى الممر المائي الجديد.

في تركيا، يزعمون أن السفن ستكون على استعداد للدفع مقابل استخدام مسار سريع لا يتطلب ساعات من الانتظار. وللتأكد من حدوث ذلك، فإنهم يهدفون حتى إلى تمديد أوقات الانتظار لتشجيع المزيد من السفن على استخدام القناة الجديدة. ذلك أن اتفاقية مونترو تمنح تركيا الحق في فحص جميع السفن التي تمر عبر مضيق البوسفور لإجراء فحوصات صحية وبيئية. وكل ما عليها فعله هو توسعة عمليات الفحص بحيث تستغرق وقتاً أطول، وتخطيها على السفن التي تمر عبر القناة الجديدة.

مع المخاوف البيئية والتأثير السلبي على المدينة، فلا عجب أن يعارض الكثيرون هذه الخطط. لكن ليس المواطنون فقط هم من يشعرون بالقلق. إنها الدول أيضاً، ومن بينها روسيا.

لماذا ستكون هذه مشكلة؟

في حين تؤكد تركيا، وإلى جانبها حلفاؤها في الناتو، أن اتفاقية مونترو لن تنطبق على قناة إسطنبول الجديدة، فإن الأمر بالنسبة لروسيا سيخلق مشاكل خطيرة.

فالقناة، من الناحية النظرية، يمكن أن تسمح لآلاف السفن الحربية، بما في ذلك حاملات الطائرات والغواصات، بدخول البحر الأسود لأول مرة وعلى عتبة روسيا بالقرب من مواقع مهمة، مثل شبه جزيرة القرم وأوكرانيا.

أما الوضع الراهن، فهو بالنسبة لروسيا مثالي، لأنه يسمح لسفنها بالتدفق دون قيود عبر مضيق البوسفور بينما يمنع سفن أعدائها من دخول البحر الأسود. لذلك فمن الطبيعي أن نتوقع منها أن تجادل بأن اتفاقية مونترو تنطبق على القناة الجديدة أيضاً. بيد أن مقولتها تعني أن تركيا لن يكون لديها أي وسيلة لتعويض خسائرها من بناء القناة في المقام الأول.

قد يؤدي تشييد القناة إلى توتر العلاقات بين البلدين، وإلى تغيير الوضع الجيوسياسي عن طريق تنحية روسيا عن كونها القوة البحرية المهيمنة في المنطقة.

لهذه الأسباب، وقع ما مجموعه 104 من الأدميرالات وضباط البحرية السابقين خطاباً مفتوحاً يعترضون فيه علناً على بناء القناة. وجادلوا بأن اتفاقية مونترو لا تزال تضطلع بدور مهم في تأمين حياد تركيا من خلال منع نشوب صراع محتمل بين روسيا والولايات المتحدة في البحر الأسود، وبأنّ تجاوزها لن يسفر إلا عن نزاع مستقبلي لن يكون أمام تركيا فيه خيار سوى المشاركة.

لكنْ في تطور غريب شهده اليوم التالي لإرسال الرسالة، تم اعتقال وسجن عشرة أدميرالات، ما أدى فعلياً إلى إنهاء أي مقاومة للمشروع. تلتزم الحكومة التركية التزاماً تاماً باستكمال قناة إسطنبول، وهذا قد يغير الوضع الجيوسياسي إلى الأبد.

يصعب أن نتخيل أن مضيق البوسفور والقيود التي فرضتها معاهدة قديمة من القرن العشرين حالت دون اندلاع حرب شاملة بين روسيا والولايات المتحدة. لكن، سواء أكان لها تأثير أم لا، لا يمكن لأحد أن ينكر أن المعاهدة ساعدت في تخفيف التوترات في المنطقة.

وفي حين جرى التركيز كثيراً على التوترات في الشرق الأوسط، غالباً ما تكون التفاصيل الصغيرة- مثل القدرة الخاصة على الوصول إلى الممرات المائية- هي ما يؤدي إلى مثل هذه المواقف المعقدة.

ماذا لو نجحت تركيا في استكمال قناة إسطنبول، وسمحت بمرور السفن الحربية الأمريكية؟ ما هو تأثير ذلك حقاً؟ قد تصعب الإجابة، لكن لن نضطر إلى الانتظار طويلاً قبل أن يصبح ذلك حقيقة واقعة.

النص الأصل: هنا

يرجى تسجيل تعليقك..